recent
أخبار ساخنة

ما هي العلاقة بين منطقة حديث النفس ومنطقة الكسب؟


تعرفنا على الجانب الغيبي من القلب، وعلمنا أنه يشتمل على منطقة حديث النفس وغريزة العقل ومنطقة الكسب، ثم علاقة ذلك بالاستطاعة والوسع، وعلمنا أن منطقة حديث النفس فيها نازعان نفسيان وهاتفان داعيان، وبينهما عقل الإنسان، ومنطقة الكسب فيها النية والإرادة وبقية أعمال القلوب، والاستطاعة في البدن هي القدرة التي ينفذ من خلالها الإنسان ما يريده خيرا كان أو شرا، إيمانا كان أو كفرا.

وعند المقارنة بين منطقة حديث النفس ومنطقة الكسب وعلاقة كل منهما بالعقل، وأثرهما الظاهر والباطن في ذات الإنسان، ينتج عن ذلك عدة أمور تبين لنا ما يدور في الجانب الغيبي من القلب:
الأمر الأول: أن منطقة حديث النفس لا يحاسب الإنسان على ما يحدث فيها أيا كان، فهذه المنطقة هي مصدر الخواطر والأفكار، ومحل الإلهام في الإنسان، لما ورد في الصحيح عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (إِن الله تجاوز لأِمّتي ما حدثت بِهِ أنفسها، ما لمْ يتكلمُوا أو يعملوا بِهِ) . وقال تعالى ناسخا المساءلة عن حديث النفس: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ البقرة:٢٨٦. أما منطقة الكسب وأعمال القلوب فهي مصدر النيات والإرادات والحركات والسكنات في الإنسان، وعليها تقع المساءلة ويدور الحساب على الأقوال والأفعال، وكل ما يكتسبه الإنسان من الأعمال.
الأمر الثاني: مما يتعلق بمنطقة حديث النفس ومنطقة الكسب أن منطقة الكسب تتحكم في منطقة حديث النفس تحكما كاملا، وتتحكم أيضا في بدن الإنسان وجوارحه، فالإرادة سيدة أعمال القلوب، وهي كالملك على عرشه، يوجه جنوده في أرجاء مملكته، فهي المهيمنة على ذاته وبدنه ظاهرا وباطنا.
وقد تستجيب الإرادة للخواطر التي تدب في منطقة حديث النفس فتستجيب لنازع الخير حتى يصل المسلم إلى أكمل ما يمكن في درجة الخير، وقد تستجيب لنازع الشر حتى يعبد هواه من دون الله سبحانه وتعالي ويختم على قلبه وسائر الأعضاء في بدنه، وقد توقف الإرادة نازع الشر بالاستغفار، وقد تستجيب للملك وإلى الحق بتوفيق الله سبحانه وتعالي، وقد تستجيب للشيطان حتى تجعل الشيطان طاغوتا معبودا ووليا لها من دون الله سبحانه وتعالي، وقد توقف الإرادة هتاف الشيطان بالاستعاذة كما قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الأعراف:٢٠٠.

وقد تأخذ الإرادة بمقتضى العقل في اتباع النقل، ويصبح المسلم على بصيرة من أمره وتوحيده لربه، والبصيرة منتهى العقل والحكمة في التمييز بين ما يضر وينفع. والإرادة أيضا قد تهمل نور العقل في العمل بالنقل ولا تلتفت إلى نصحه وتوجيهه حتى تتجاهله بالكلية وكأنه معدوم ويصبح الإنسان كما قال تعالى: وَمَثَلُالَّذِيْنَ كَفَرُوْا كَمَثَلِ الَّذِيْ يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّدُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُوْنَ البقرة:١٧١ . وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ الملك:10.

الأمر الثالث: أن منطقة حديث النفس يخرج منها نسيان الخطأ، ومنطقة الكسب وأعمال القلوب يخرج منها نسيان العمد، فنسيان الخطأ كقوله تعالى عن موسى رضي الله عنه وفتاه: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا الكهف:٦٣. وقوله عن يوسف رضي الله عنه: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ يوسف:٤٢. ونسيان الخطأ هو المقصود بقوله صل الله عليه وسلم: (إِن الله تجاوز عن أمّتِي الخطأ والنسْيان وما اسْتُكْرِهُوا عليهِ)

وقد يكون نسيان الخطأ من الملك فيلقي خاطرا بإيحاء يكون لمصلحة العبد في حصوله على خير أعلى مما هو فيه وبتوفيق من الله سبحانه وتعالي وحكمته كما في قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة:١٠٦.

أما نسيان العمد فمثاله النسيان الذي ورد في شأن آدم عليه السلام، وهو وإن كان مبدؤه وسواس من الشيطان إلا أنه اكتسبه بأكله من الشجرة وتطلب كما هو معلوم الاستغفار والتوبة. قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا طه:١١٥. وقال سبحانه: فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة:٣٧. ومن نسيان العمد الذي ينبع من منطقة الكسب والمساءلة قوله تعالى عن حزب الشيطان: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ المجادلة:١٩. وقال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الحشر:١٩.

الأمر الرابع: مما يتعلق بمنطقة حديث النفس ومنطقة الكسب أن منطقة حديث النفس تتطلب استغفارا عاما، فخاطر الشر أو نازع الهوى إذا ورد فإنه يتطلب استغفارا عاما وقائيا لإيقاف تأثير هذا الخاطر، أما لو انتقل الذنب في منطقة الكسب وعزمت عليه الإرادة أو قع فعلا فإنه يتطلب استغفارا خاصا. ومثال الاستغفار العام ما رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه، أن رسُول الله صل الله عليه وسلم كان إِذا انصرف من صلاته اسْتغْفر ثلاثاً، وقال: (اللهُمّ أنت السّلامُ ومِنك السّلامُ، تباركْت ذا الجلال والإِكْرامِ) ( ). وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: (والله إني لأستغفرُ الله وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة) ( ).
أما الاستغفار الخاص فهو كقوله تعالى عن نوح عليه السلام: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ يوسف:٢٩.
google-playkhamsatmostaqltradent