recent
أخبار ساخنة

ما هي وسائل إدراك اليقين لدى سائر العقلاء؟


أقصى حدود العقل الصريح أن يتعرف بمفرده على وجود الله وعظمته من خلال الأسباب ودلالتها على نتائجها، وكيفية التلازم بينها، وهناك عدة أمور يدرك بها العقل الصريح حقائق الأشياء على وجه اليقين:

أولها: البديهيات أو الأوليات، وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير، وأن الأثر يدل يقينا على المسير، وهكذا الحكم بأن كل مخلوق لابد له من خالق، وكل نتيجة لابد لها من سبب، فنحن ما رأينا سيارة تتحرك دون قائدها، أو أوراقا مسطرة بكلمات بديعة كُتبت وحدها بغير كاتبها، وما شاهدنا أبدا حجارة ورمالا تتحرك وحدها، فتجتمع على بعضها، وترتب نفسها بنفسها، لتقيم قصرا بديعا، أو سدا منيعا. ولهذا لما سئل أعرابي عن وجود الخالق فقال معبرا في إجابته عن منطق فطرته: (إن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟)


لقد بنى الأعرابي إجابته على دلالة الأوليات على الخالق، ودلالة البديهيات على الاعتقاد اليقيني بوجود الله، وأنه من المستحيل عقلا أن يوجد مخلوق بغير خالق، وعلى هذا جاء قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لّا يُوقِنُونَ / الطور:٣٥/٣٦.



وقد أكد الإنسان العاقل صاحب العقل الصريح بنظره في الواقع أنه لا يمكن أن يخلق نفسه، فضلا عن غيره، ولو استطاع أن يخلق نفسه، لصورها كما يشاء، ولأوجد فيها كل صفات الكمال، ولم يجعلها عرضة لنوازع النفس التي تنتقص من قدر الشخص بين الناس؛ ولكن الواقع الذي يراه ويحسه الجميع، أن الإنسان يبدأ من نطفة قذرة، ويمر بأطوار مختلفة، حتى إذا اكتمل تكوينه، خرج من بطن أمه في منتهى العجز والضعف، لا يعلم من أمر الحياة شيئا، ثم يتدرج في النمو حتى يبلغ في القوة مداها، ثم يبدأ في الضعف والوهن بالشيخوخة والاضمحلال إلى أقصاه، ثم تنتهي حياته فيموت ويرجع إلى التراب، ثم يتحول بعد ذلك إلى عظام بالية، كأن لم يكن ويصبح بعد ما كان نسيا منسيا، ولذلك قال الله تعالى مخاطبا العقلاء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ الحج:5.



والحق سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى النظر في آياته الكونية، والمخلوقات المرئية، بما في ذلك النفس البشرية، فدور العقل هنا البحث فيما يراه في المخلوقات من حكم وآيات، وذلك يدل باللزوم على وجود الله وقدرته، وعلمه ومشيئته، وكمال صنعه وحكمته، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله، من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة الأوليات أو البديهيات.



ثانيا: المحسوسات وهي من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء، وقد جعلها الله عز وجل وسيلة من وسائل الإثبات، وجعلها من مدارك اليقين لدى صاحب العقل الصريح، فبالمحسوسات يوقن الإنسان بما يراه، وقد أمر الله عباده باستخدام المحسوسات التي هي من مكونات الجهاز الإدراكي في النظر إلى الإبداع الكوني، والتأمل في خلق السماوات، والتفكر في سائر المخلوقات.

قال تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ/ الغاشية:١٧/٢١. 

وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ،، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ/    الروم:٤٨/٥0.



ثالثا: المتواترات، وهي من الأمور التي يدرك بها صاحب العقل الصريح حقائق الأشياء، فالخبر المتواتر بنقل العدل الصادق الضابط يدل على العلم اليقيني، كعلمنا بوجود مكة والمدينة، فإن العلم بوجودهما علم يقيني، وكذلك العلم ببعثة النبي صل الله عليه وسلم علم يقيني، لما ورد فيها من تواتر الأخبار؛ ونقل حملة الآثار، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين؛ والحديث المتواتر هو ما رواه جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلى نهاية الإسناد عن رسول الله صل الله عليه وسلم.



ويحصل اليقين أيضا بخبر الراوي الواحد المعروف معرفة شخصية بالعدالة والضبط، وعدم المبالغة في القول، والمعهود عنه عدم الكذب في حياته كالراوي الثقة الذي لم يعرف بارتكاب كبيرة، ولا إصرار على الصغيرة، فربما يُحدث خبره من اليقين في قرارة نفس السامع ما لا تحدثه أخبار التواتر.



ولم يختلف أحد من الأمم في أن رسول الله صل الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسولا واحدا يدعوهم إلى الإسلام، أرسل رجلا واحدا مفردا إلى كل مدينة وقبيلة، كصنعاء وحضرموت ونجران، وتيماء والبحرين وعمان، وغير ذلك من البلدان، وكان كل رسول يُعلم الناس أحكام دينهم كلها، عقيدة وشريعة، وافترض النبي صل الله عليه وسلم على كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم؛ فصح عند أهل السنة والجماعة قبول خبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صل الله عليه وسلم.



رابعا: التجريبيات من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة، وأن الماء يطفئها، وأن الشمس مشرقة، وأن السقف يحجبها، وأن الماء ينزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، فهي سنن وعادات، وتجارب وممارسات، تدل على حدوث اليقين في النفس؛ ولذلك حذرنا الله عز وجل من العصيان، وذكرنا بما حدث لأعدائه من الخسف والمسخ والصيحة والنيران، كما قال تعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا فاطر:٤٣. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (لا يُلدغُ المؤْمنُ منْ جُحْرٍ واحدٍ مرّتيْن) ([2]).



خامسا: الاعتراف، وهو من الأمور التي يدرك بها صاحب العقل الصريح حقائق الأشياء اعتراف الإنسان على نفسه بذنبه، وهو سيد الأدلة، وعليه أقام النبي صل الله عليه وسلم حد الزنا على ماعز والغامدية، كما ورد عند مسلم من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه قال: (جاء ماعزُ بْنُ مالكٍ إلى النّبيّ صل الله عليه وسلم فقال: يا رسُول الله طهّرْني؟ فقال: ويْحك ارْجعْ فاسْتغْفرْ الله وتُبْ إليْه. قال بريدة: فرجع غيْر بعيدٍ ثمّ جاء فقال: يا رسُول الله طهّرْني؟ فقال رسُول الله صل الله عليه وسلم: ويْحك ارْجعْ فاسْتغْفرْ الله وتُبْ إليْه. قال: فرجع غيْر بعيدٍ ثمّ جاء فقال: يا رسُول الله طهّرْني؟ فقال النّبيُّ صل الله عليه وسلم مثل ذلك، حتّى إذا كانتْ الرّابعةُ، قال لهُ رسُول الله: فيم أُطهّرُك؟ فقال: منْ الزّنا، فسأل رسُول الله صل الله عليه وسلم أبه جُنُونٌ؟ فأُخْبر أنّهُ ليْس بمجْنُونٍ، فقال: أشرب خمْرًا؟ فقام رجُل فاستنكحه، فلمْ يجدْ منْهُ ريح خمْر؛ فقال رسُول الله صل الله عليه وسلم: أزنيْت؟ فقال: نعمْ، فأمر به فرُجم) ([3]).



تلك مدارك اليقين، ودور صاحب العقل الصريح هو النظر من خلالها في الأسباب، والتعرف بدلالتها وجود الخالق، فقول العامة: ربنا عرفناه بالعقل لا يصح إلا على معرفة وجوده من خلال النظر في الأسباب ودلالتها عليه، والتعرف من خلالها على عظمته.

ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز ذلك كما فعلت بعض فرق المبتدعة كالمعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم من أتباع الجهمية؛ لأن صاحب العقل سوف يقع حتما في الضلال؛ لعجزه عن تحديد ما يليق بالله من صفات الكمال، وسيتقول على الله بما لا يعلم، فلو أردنا أن نتعرف على عالم الغيب أو ما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم، أو عالم الملائكة، أو عالم الجن والشياطين، أو نتعرف على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا بد من الرجوع إلى ما أخبر الله عز وجل فيه عن نفسه في الكتاب والسنة. قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا /
الإسراء:٣٦.

كتاب سهل - الرضواني
google-playkhamsatmostaqltradent