recent
أخبار ساخنة

ما هو أثر الإيمان بمراتب القدر في الأخذ بالأسباب؟


خلق الله الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج، السبب والنتيجة مخلوقان بمراتب القدر، سواء ارتبط السبب بنتيجته أو انفصل عن نتيجته، فالعلل والأسباب سواء ترابطت، أو انفصلت فلا يؤثر ذلك في تعلقها بمراتب القدرة، ولكن العلل والأسباب ترابطها أو انفصالها ظاهر عن كمال الحكمة.

وبيان ذلك أن الله بنى الحياة على ترابط الأسباب بحيث لا يخلق النتيجة إلا إذا خلق السبب أولا، ولا يخلق المعلول إلا إذا خلق علته، فلا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة أو الحبة، ولا يخلق الثمرة إلا إذا خلق النبتة، لا يخلق الابن إلا إذا أوجد الأب والأم. ومن هنا ظهرت الأسباب للعقلاء كابتلاء يصح من خلاله العمل بالسنن والبديهيات، وحكم التجارب والأوليات، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب، ويعلمون أن الله عز وجل خلقها بمراتب القدر، فيجدون أنه سبحانه تارة ينسب الفعل إليه؛ لأنه الخالق بتقدير وقدرة، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلى العمل بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة فمرة يقول في بيان التقدير والقدرة: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ الواقعة:٦٣/٦٤. 

فنفى عن الناس خلقهم لأفعالهم، وتأثير الأسباب في خلق أرزقهم، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب لأنه الخالق في الحقيقة، الذي قدر وكتب وشاء وخلق، قدر كل شيء في علمه، وكتبه في أم الكتاب بقلمه، وأمضاه بمشيئته، وخلقه بقدرته إظهارا لتوحده في ربوبيته.

ثم أمر الناس أن يأخذوا بالأسباب التي خلقها، وأحكم لهم تدبيرها وجريانها، إظهار لحكمته وتوحيده في عبوديته، وعملا بشريعته كما قال جل في علاه: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ\ يوسف:٤٧. 

وقال أيضا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا\ الفتح:٢٩.

 فسماهم زراعا وقال تزرعون، وسماهم كفارا لأنهم يكفرون البذرة أي يضعونها في الأرض ويغيبونها ويغطونها، وذلك أننا في دار ابتلاء وامتحان، والأخذ بالأسباب حتم لازم على بني الإنسان، فهم مستخلفون في ملكه، مخولون في أرضه، فطالبنا بالعمل والإنفاق، ليصل كل منا إلى ما قدره الله له الأرزاق.

 قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ\ الحديد:٧.

ومن ثم فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ولا بد أن يجتازها الإنسان، وهو في هذه الدار بالخيار، حر بين نجدين يوصلان إلى جنة أو نار، كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب، قال تعالى: وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ\ الشورى:٧. فكل ميسر لما خلق له، وكل سينال ما قدر الله له.

 إن الله تعالى أظهر الدنيا أسبابا، ونسب الفعل إلى أهلها لإظهار حكمته عند دعوتهم لتوحيد الله بالعبودية، ونسب الفعل وأثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته عند دعوتهم لتوحيد الله بالربوبية.

والتوحيد الحق ألا يتغافل الموحد عن قدرته سبحانه بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته، وألا يتغافل عن شرعه وحكمته بدعوى الانشغال في النظر إلى قدرته، فالله عز وجل يخلق بأسباب وبغير أسباب، إن خلق بأسباب فهي العادات، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات، أو الكرامات والمعجزات. فالثمرة يخلقها الله تعالى بعد خلق النبتة، ويربط خلق الثمرة بوجود النبتة، ويمكن أن يخلق الثمرة من غير نبتة، فهذه مريم قال تعالى في شأنها: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ\ آل عمران:٣٧.

وهى قد علمت أن الذي يخلقها بأسباب يخلق بغير أسباب، ويرزق بحساب من العبد أو بغير حساب، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله عز وجل اختارها لأعظم ابتلاء، وأنها ستحمل على غير عادة النساء، وتلد عيسى علية السلام كمعلول بغير علة، ونتيجة بلا سبب.

وقد يخلق الله العلة ولا يخلق معلولها، كما فعل بإبراهيم علية السلام قال تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ الأنبياء:٦٨/٦٩.

 وقد يخلق المعلول بلا علة، كما فعل بناقة صالح، حيث أخرجها من وسط الصخر فانشق الجبل وخرجت منه.
ولذلك كان أثر الإيمان بمراتب القدر إفراد الله بتقدير الأرزاق والعطاء، والتوكل عليه في الشدة والرخاء، فأول أركان التوكل على الله، اعتقاد العبد أنه لا خالق إلا الله، ولا يدبر الكون سواه، واعتقاد الموحد أن الذي يرزق العباد بأسباب قادر على أن يرزق من غير أسباب، وكلاهما عند المؤمنين في الإيمان سيان، طالما أن الله هو الخالق في أي وضع كان، ولذلك فإن التوكل من أعلى مقامات اليقين، وأشرف أحوال المقربين، قال تعالى:فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ\ آل عمران:١٥٩.

ومن هنا إذا علم العبد الذليل أن الملك الكبير قائم بالقسط والتدبير، ومنفرد بالمشيئة والتقدير، عنده خزائن كل شيء، وكل شيء عنده بمقدار، لا ينزله إلا بقدر معلوم، وعلم أن الوكيل سبحانه قابض على نواصي الملك، وله خزائن السماوات والأرض، فأيقن أن ربه بيده ملكوت كل شيء، وأنه يملك السمع والأبصار، ويقلب القلوب أو يصرفها أو يثبتها في البشر أجمعين، وأنه يتولى تدبير شئون العالمين، وأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين، إذا علم العبد ذلك أيقن أن الملك الكبير من فوق عرشه كفيل بأمره ورزقه، يغنيه من فضله وكرمه، واعتمد عليه في كل شيء، ووثق به دون كل شيء، وقنع منه بأدنى شيء، وصبر علي ما ابتلاه به في هذه الحياة. وهنا لا يطمع العبد في سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته، ولا يرى في المنع إلا حكمته، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته، عند ذلك حقت للعبد معاني التوحيد في عبادته، وصدق في إسلامه وشهادته، ووحد الله في ربوبيته، فعرف أن المخلوق لا حول ولا قوة له إلا بخالقه، وأن طلب الرزق لا يكون إلا عند رازقه.
google-playkhamsatmostaqltradent