recent
أخبار ساخنة

ما المقصود بالفقر الاضطراري العام والاختياري الخاص؟


الفقر الذاتي وصف متأصل في مخلوق كائن في هذا العالم، وفقر الإنسان واحتياجه فقران:

الفقر الأول: هو الفقر اضطراري، وهو فقر عام، لا خروج لبر ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحا ولا ذما، ولا ثوابا ولا عقابا.

الفقر الثاني: فقر اختياري يعرف فيه العبد بربه ويعرف بنفسه، فينتج عنه فقر هو عين الغنى بالله، وهو عنوان فلاحه وسعادته، فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة، عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام، عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة، عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئا، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئا، ولا يقدر على عطاء ولا منع، ولا ضر ولا نفع، فكان فقره إلى ربه أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد، وكان صلاحه وفلاحه في الافتقار إلى الله، ودعائه وطلب حوائجه منه، وعبادته والاستعانة به، وكان هلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به، وهذا هو حقيقة توحيد العبودية ووصف الافتقار إلى رب العزة والجلال.

والله سبحانه وتعالى غني كريم، عزيز رحيم، محسن إلى عبده لعلمه أنه فقير بذاته، ومن ثم يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا، ولطفا وإنعاما، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ -  الذاريات:٥٦/٥٨.

وأما العباد فهم لفقرهم وحاجتهم يحسن بعضهم إلى بعض، وينتفع بعضهم ببعض، ولولا تصور ذلك النفع بينهم لما أحسن أحدهم إلى الآخر، فكل واحد منهم إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره

وهو أيضا إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة، فهو أيضا محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره الأعظم، فهو غير ملوم في هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه ( ).

روى مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبِي صل الله عليه وسلم قال عن ربه: (يا عِبادِي كُلكُم ضال إلا من هديْتهُ، فاستهدوني أهْدِكُم، يا عِبادِي كُلكُم جائِعٌ إلا من أطْعمتهُ، فاستطعموني أُطْعِمكُم، يا عِبادِي كُلكُم عار إلا من كسوْتهُ، فاستكسوني أكْسُكُم، يا عِبادِي إِنكُم تخْطِئُون بِالليْل والنهار، وأنا أغْفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغْفر لكُم، يا عِبادِي إِنكُم لن تبْلغُوا ضري فتضُروني، ولن تبْلغُوا نفعِي فتنفعُوني، يا عِبادِي لو أن أوّلكُم وآخِركُم وإِنسكُم وجنكُم كانوا على أتقى قلبِ رجل واحِدٍ منكُم، ما زاد ذلك في ملكِي شيئا، يا عِبادِي لو أن أوّلكُم وآخِركُم وإِنسكُم وجنكُم كانوا على أفجر قلبِ رجل واحِدٍ، ما نقص ذلك من ملكِي شيئا، يا عِبادِي لو أن أوّلكُم وآخِركُم وإِنسكُم وجنكُم قاموا في صعِيدٍ واحِدٍ، فسألوني، فأعْطيْت كُل إِنسان مسْألتهُ، ما نقص ذلك مما عِندِي إلا كما ينقصُ المخْيط إذا أُدْخِل البحْر، يا عِبادِي إنما هِي أعْمالكُم، أُحْصِيها لكُم، ثم أُوفيكُم إِيّاها، فمن وجد خيْرا فليحْمدْ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسهُ) ( ).

إن فقر المخلوقات إلى الخالق ودلالتها عليه وشهادتها له أمر فطرى، فطر الله عليه عباده، كما فطرهم على الإقرار به بدون براهين عقلية، أو دلالات الأقيسة الشمولية والتمثيلية، فالعلم بأن المحدث لابد له من محدث، هو علم فطرى ضروري في كل نفس، وفطرة العبودية يتعرف صاحبها على الخالق بدون الفلسفات الكلامية، فإن الإنسانية قد فطرت على ذلك، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات فقيرة بذواتها، وأنها آيات ودلائل على وجود الخالق، وما من عبد إلا ويشعر في نفسه أن سعادته تكمن في كمال افتقاره إلى ربه، واحتياجه إليه، وأن يقر بذلك، ويشهد به، ويعرفه، ويتصف بما يجب عليه من الذل والخضوع والخشوع، وهذا هو الافتقار الذي يؤدي إلى المدح والكمال، وإلا فالخلق كلهم محتاجون إلى الله بالضرورة والاضطرار، لكن الإنسان قد يظن أنه استغنى عن الله فيطغى.

كما السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم من منطلق الفطرة والحاجة، والافتقار والعبودية لله وحده، فترجوا الله فيهم ولا ترجوهم، وتخافه فيهم ولا تخافهم، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافئتهم، وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم، وألا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا لرجاء مدحهم، ولا خوفا من ذمهم، بل ترجو الله وحده، ولا تخفهم فيما تأتى وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه، فإن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، فإذا أرضيتهم بسخطه لم تكن موقنا بوعده ولا برزقه، فإذا أرضيت الله نصرك ورزقك، وكفاك مؤنتهم.

ولا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد، فإنه لابد له منه، وإذا لم يحصل له لم يزل فقيرا محتاجا، معذبا في طلب ما لم يحصل له، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل له غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذبه، فالعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله، والاستعانة به كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابد أن يشهد دائما فقره إلى الله، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه.
google-playkhamsatmostaqltradent