ترتيب الصوفية للمقامات ترتيب بدعي يشعر فيه من نظر إلى مقامات العابدين وطريق المريدين والعارفين الذي وضعه الصوفية للسالكين أنه يسير في منازل ومقامات، كل منها يتلو الآخر، بحيث لا ينتقل السالك إلى مقام إلا إذا فارق السابق، فيقطع المقام ويستوفيه، ثم يفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي، والأمر في أعمال القلوب ليس كذلك، بل هذا محال كما ذكر ابن القيم رحمه الله، فاليقظة وعدم الغفلة مثلا عمل من أعمال القلوب، لا بد أن يكون مع المؤمن في كل مقام لا تفارقه.
وكذلك البصيرة والإرادة والعزم، وكذلك التوبة، فإنها أول المقامات وآخرها، وكذلك الإخلاص؛ فإنه حقيقة الإسلام، وأساس جميع الأعمال، إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره، فمن لم يستسلم له فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر، وذلك في القرآن كثير.
ولهذا كان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا سواه. كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ آل عمران:٨٥.
وكذلك الصدق لازم لقول العبد لا إله إلا الله، فلابد أن يتفق القلب واللسان والجوارح على عبادة الله وحده في جميع شعب الإيمان ومقامات الدين، ولا يشك عبد لحظة أن الله هو المعبود بحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب ويطاع في أمره دون عصيان. وقد أخبر النبي صل الله عليه وسلم أن الصدق يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور، والبر وصف البررة والأبرار، كما أن الصدق والإخلاص هما تحقيق الإيمان والإسلام، فإن المظهرين للإسلام ينقسمون إلى مؤمن ومنافق، فالفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، وأخبر الله أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين جاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، ومعلوم أن من صدق الله في جميع الأمور، صدق في التوكل عليه وصح الإخلاص لديه، وصدق في خوفه من الله وحده، ونجاه الله عند البلاء، ورفع عنه أسباب الشقاء، ولا تنفع الأعمال الظاهرة بدون الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، بل علم القلب وعمله هو أصل الدين في الحقيقة.
وهذه الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودا في حال واحد دون آخر. ومن زعم أن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة، فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها الكافر والمنافق.
ولا بد في مقامات القلوب من تقديم ما قدمه الله وتأخير ما أخره فمقام التوحيد أول المقامات التي يبدأ به المسلم وليس هو آخر المقامات كما فعل أبو إسماعيل الهروي في تقسيمه البدعي لمنازل السائرين، فالتوحيد أول دعوة الرسل كلهم. وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له: (إنّك تقْدمُ على قوْمٍ مِنْ أهْل الكِتابِ، فليكُنْ أوّل ما تدْعُوهُمْ إِلى أنْ يُوحِّدُوا الله تعالى، فإِذا عرفُوا ذلك، فأخْبِرْهُمْ أنّ الله قدْ فرض عليْهِمْ خمْس صلواتٍ فِي يوْمِهِمْ وليْلتِهِمْ)
ولا يصح مقام من مقامات القلوب، ولا حال من الأحوال إلا بالتوحيد فلا وجه لجعله آخر المقامات، لأنه مفتاح دعوة الرسل، وأول فرض فرضه الله على العباد، وما عدا هذا من الأقوال فخطأ كقول من يقول: أول واجب على المسلم النظر في وجود الله، أو القصد إلى النظر، أو البحث عن معرفة وجوده سبحانه، أو الشك في وجود الله الذي يوجب النظر. وكل هذه الأقوال خطأ، بل أول الواجبات مفتاح دعوة المرسلين كلهم وهو أول ما دعا إليه فاتحهم نوح وأول ما دعا إليه خاتمهم محمد صل الله عليه وسلم.