recent
أخبار ساخنة

كيف نجمع بين الختم على القلب ومحاسبة العبد بالعدل؟


الختم والطبع على القلوب لا يتعارض مع حكمة الله وعدله في محاسبتها، ولا يعني ذلك إجبارها، أو ظلم الله لها إن عذبها، فمعلوم أن كل ما يقلبه الله في منطقة حديث النفس لا حساب عليه ولا عقاب، وأن ما قلبه الله للعباد إنما هو ابتلاء بالخواطر، وهي أسباب كسائر الأسباب، أما ما كان في منطقة الكسب من اختيارات العبد فعليه الثواب والعقاب، وهو الذي اختار طريق الباطل والضلال وتمسك به حتى أعلن لنفسه أن عودته للرشد والصواب أمر محال ودرب من الخيال، فطبع الله على قلبه وختم عليه.

وإذا أراد الله بعبد خيرا هيأ أسباب ذلك فأكمل عقله، وأتم بصيرته، ثم صرف عنه العوائق والدوافع، وأزاح عنه الموانع، ووفق له قرناء الخير، وسهل له سبله، وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلات، وقيض له ما يقربه إلى القربات، فيوافيها ثم يعتادها ويتمرن عليها.

وإذا أراد الله كونا بعبده شرا قدر له ما يبعده عن الخير ويقصيه، وهيأ له أسباب تماديه في الغي، وحبب إليه التشوف إلى الشهوات، وعرضه للآفات والابتلاءات، وكلما غلبت عليه دواعي النفس خنست دواعي الخير، ثم يستمر على الشرور على مر الدهور، ويأتي مهاويها ويتعاون عليه الوسواس ونزعات الشيطان، ونزعات النفس الأمارة بالسوء، فتطبع الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره، فذلك هو الطبع والختم والأكنة .

يكون القلب فارغا من الشر والمعصية، فيوسوس الشيطان إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه، ويمنيه ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه، حتى تستجيب الإرادة، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث جنوده من أعضاء البدن وما تبعه في طلب الأمر المشتهى، فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم، كما قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا مريم:٨٣.
أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة، وأتم مكيدة، قد رضي الشيطان لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم فقعد لهم بكل طرق الخير، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه، يمنعه بجهده أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه، وعوقه وشوش عليه بالمعارضات.

وقد أقسم الشيطان بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم حتى يعبد من دون الله، فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض .

ومن ثم فإن اتباع الإنسان للشيطان إذا انضم إلى مسارعة الإنسان في الاستجابة لكل ما يهواه، سقط قلبه في ظلمات لا يعلمها إلا الله، وعندها يصبح القلب بكل ما فيه مختوما لكل أنواع الباطل والضلال ومن ثم يتم الختم أيضا على الإسماع وتقع الغشاوة على الإبصار، لأن القلوب أقفلت، وجعلت عليها الأكنة والرين والطبع والختم والإغفال عن ذكر الرب حتى زاغ القلب، وتداخل الصدر، وأصبح ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.

وقد تقدم أن منطقة حديث النفس لا حساب عليها، وأنها مفتاح الابتلاء ومحل البلاء، فتارة تتوالى الخواطر من النازعين، وتارة تتوارد من الهاتفين، فربما تختلف اللمتان من الملك والشيطان العدو، ويتفاوت الإلهام والوسوسة في طرح معاني الخير والشر، فلربما تقدمت لمة الشيطان بالأمر بالشر، وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتا على الخير، وعناية من الرب تعالى، فينتهي عن ذلك، وعلاقة ذلك بالإرادة أنه يجب على العبد أن يعصى خاطر الشر، ويستغفر الله ويتعوذ به من الشيطان، ويطيع الخاطر الثاني ويحمد الله.

ولربما تقدم إلهام الملك بالأمر بالخير، ثم يقدح بعده خاطر الشيطان بالنهى عنه، والتثبيط فيه، وتأخير الاستجابة، محنة من الله تعالى للعبد، لينظر كيف يعمل، وحسدا وحقدا من الشيطان، فعليه أن يطيع خاطر الحق ويعصى خاطر الشيطان، ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة الشيطان بالشر، وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخير لقوة الرغبة في الدنيا، ومن قوة خاطر الشر لقوة الشهوة والهوى، وتزداد الخواطر وتنقص حسب تقليب الله ومشيئته، وتوفيقه لعبده وهدايته، وتثبيته وعصمته، ليرجع الأمر إلى نفاذ قضاء الله وقدره وتحقيقه لحكمته وعدله وابتلائه العبد في قلبه وبدنه.

وكل هذا إلقاء من خالق النفس ومقلب القلوب، حكمة منه وعدلا لمن شاء، ومنة منه وفضلا لمن شاء، كما قال سبحانه:وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ الأنعام:١١٥. أي بالهداية صدقا لأوليائه ما وعدهم من ثوابه، وبالإضلال عدلا على أعدائه ما أعد لهم من عقابه، فإذا أراد الله إظهار شيء من خزائن الغيب وظهور آثار قدرته وحكمته في عبده حرك بلطيف القدرة نازع الشر والاشتهاء في قلبه، فتحركت النفس بإذنه ابتلاء وامتحانا لعبده، فقدح من حركتها ظلمة تنكت في القلب همة سوء، فينظر الشيطان إلى القلب فيقوى نازع الشر، والعبد في غفلة، كان يجب أن يستغفر الله، ويستعيذ به من الشيطان ولكنه ما فعل، وتحرك بإرادته مستجيبا لحلاوة لشهوته فيقع في العصيان ويحاسب على ذنبه بعدل الله الذي لا يظلم أحدا من خلقه.

فإذا أراد الله تعالى بفضله سلامة عبده هذا الذي أشرف على الهلاك والبعد، بتسلط الشيطان عليه وتسويل النفس الأمارة له، ليطهِّر قلبه عند البلاء حرك له نازع الخير، وأمر الملك فحثه وحضه بخواطر كثيرة توقظه من غفلته، فيستغفر العبد بعزمه وإرادته، ويكثر من الاستغفار ويستعيذ ويكثر من الاستعاذة، فيهدى الله النفس بنور إيمانها بالله، وصدق الالتجاء إلي الله، عائدا لائذا مخلصا مفوضا أمره إليه فوقاه الله مكر الشيطان، وجعل له مخرجا ونجاه، فينخمد نازع الشر وينمحق الهم من القلب ويخنس الشيطان ولا يبقى لخاطره من سلطان، فيصفوا القلب بقوة العزيز القهار، وتقليب الملك الجبار، فيخاف العبد مقام ربه، ويفزع من خطيئته وذنبه، ويهرب منها ويستغفر الله ويتوب.

وهذا كله تحقيق لحكمة الله في تقليب القلوب، وإنفاذ لمشيئة علام الغيوب في ابتلاء عبيده حتى يتحقق المكتوب، وهذا معنى كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبين الجنةِ إِلا ذراع، فيسبقُ عليه كتابهُ في اللوح المحفوظ أن الله سبحانه وتعالي سيبتليه فيفشل ويضل، حيث يبتليه الحق في منطقة حديث النفس فلا يستجيب العبد ويضل في منطقة الكسب، يستجيب لهواه ويسارع في إرضاء الشيطان، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وكذلك الرجل يعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه وبين النار إِلا ذراع، فيسبقُ عليه كتابهُ في اللوح المحفوظ أن الله سبيتليه فينجح ويستجيب إلى هداية الله، يبتليه الله في منطقة حديث النفس بنازع التقوى ولمة الملك فيستجيب باختياره الكائن في منطقة الكسب لنازع الخير وهاتف الخير، ويسارع في إرضاء الحق، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، هكذا يتحقق عدل الله وفضله في تقليب القلوب لعباده ولا يظلم الله أحدا من خلقه فيما وقع من قضائه وقدره.
google-playkhamsatmostaqltradent