recent
أخبار ساخنة

هل آيات الصفات من المحكمات أو من المتشابهات؟


المحكم هو المعلوم الواضح المعنى، والمتشابه عكس المحكم، وهو المجهول الذي لا يعلمه إلا الله، وعلى ذلك فإن معاني نصوص الصفات محكمات لأنها معلومة؛ ويمكن ترجمتها إلى لغة أخرى، أما الكيفية الغيبية التي دلت عليها فهي مجهولة؛ ومن المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله.



أما إذا كان معنى النص معلوما، والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا، كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم، كما هو الحال في جميع آيات الأحكام، ولذلك والله أعلم سميت نصوص الأوامر التكليفية أحكاما، لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها.



وإن كان معنى الآية معلوما، والكيف مجهولا، كانت الآية محكمة في المعنى متشابهة في الكيف. وإذا قيل في عرف السلف: هذا النص متشابه، فيقصدون بذلك أنه متشابه باعتبار الكيف لا المعنى، وأن الخوض في تصور ما دلت عليه الآيات من الكيفيات الغيبية، هو خوض في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، إما بتمثيلها بالأقيسة التمثيلية والشمولية التي تحكم سائر المخلوقات، أو القول بتعطيل الصفات حتى لا نقع في التشبيه، أو تأويلها على غير مراد الله من الآيات، فإن الخوض في ذلك كله باطل. والنتيجة التي نصل إليها من هذه الرؤية أن القرآن جميعه محكم المعنى لقوله تعالى عن جميع آيات القرآن: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود:١. أي أحكمت باعتبار المعنى، فليس في القرآن كلام بلا معنى.



أما من جهة الكيفية التي دلت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فبعضها محكم معلوم، وبعضها متشابه مجهول، وهذا هو المقصود بقول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول؛ وهو المعنى المشار إليه في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ آل عمران:٧. فلو سأل سائل عن استواء الله في قوله: الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ طه:٥. هل هو من المحكمات أم من المتشابهات؟ قيل له: الاستواء محكم المعنى، متشابه الكيف.



وأما ما عاينه الإنسان من الكيفيات التي تتعلق بالمخلوقات، والتي دلت عليها الآيات ككيفية أداء الصلاة والزكاة والصيام وأفعال الحج وما شابه ذلك، فهذا محكم المعنى والكيفية، فلو سأل مسلم أعجمي لا يعرف العربية عن معنى الصلاة في قول الله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ البقرة:٣؟ لقيل له بلسانه: الصلاة أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فيسأل عن كيفية أدائها؟ يقال له: أمرنا رسول الله صل الله عليه وسلم بأن نحاكيه تماما في الكيفية، فقال مبينا ذلك في بعض الأحاديث النبوية: (وَصَلوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أصَلي) ([1]).



أما إذا كان المعنى معلوما والكيف الذي دل عليه المعنى مجهولا كانت الآية من المتشابه باعتبار الكيف لا باعتبار المعنى، كما في جميع الأخبار والنصوص التي وردت في وصف عالم الغيب؛ فالجنة مثلا سمعنا عن وجود ألوان النعيم فيها، وأخبرنا الله بذلك في كتابه وسنة نبيه صل الله عليه وسلم، وعلى الرغم من ذلك قال رسول الله صل الله عليه وسلم عن كيفية ألوان النعيم فيها: (قَال اللهُ: أعْدَدْتُ لعِبَادِي الصَّالحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة:١٧) ([2]).



وجميع آيات القرآن لها معنى معلوم عند الراسخين في العلم حسب اجتهادهم في تحصيله، وعليه جاء قول ابن عباس رضي الله عنه: (أنا من الراسخين في العلم) ([3]). أما المتشابه في هذا الباب فهو الذي استأثر الله بعلمه، من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو، والتي أخبرنا بها في كتابه، ومن ثم فإن القرآن كله محكم باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ، وباعتبار الكيفية ففيه المحكم والمتشابه. وقد يأتي المتشابه بمعنى التماثل في الحسن، وعليه فإن القرآن كله متشابه كما في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ الزمر:٢٣. أي أن جميع آيات القرآن يشبه بعضها بعضا من حيث الصحة والإحكام، وإعجاز الصياغة في سائر الكلام، والبناء على الحق والصدق، والهداية ومنفعته الخلق، وتناسب ألفاظه وتناسقها في الإصابة والبلاغة وقوة الصياغة.



وأما المحذور الثاني للقاعدة الثالثة فهو وجوب الحذر من تقديم العقل على كتاب الله وسنة رسوله صل الله عليه وسلم، لأن ذلك ينافي معنى الإسلام والخضوع لرب العالمين، فالله عز وجل أنزل الوحي وأمرنا بتصديق ما جاء فيه من أخبار، وتنفيذ ما جاء فيه من أوامر؛ وقد أمرنا بتوحيده وإفراده عمن سواه، وأن نقف عند حدود مداركنا، فهو سبحانه ليس كمثله شيء مما نرى أو نسمع أو ندرك في عالم الشهادة، فقال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء:٣٦. فإذا تطاول العاقل وأخذ يقيس بعقله شيئا من عالم الغيب على أحكام عالم الشهادة؛ كقولهم لو كان على العرش لكان محمولا، أو لو اتصف بالمجيء لفصل القضاء لكان متحركا؛ وكل متحرك محدث، أو لو كانت له يد لكان له أعضاء وجوارح، وغير ذلك من أحكام العقل التي يخضع لها المخلوق، إذا فعل العقل ذلك لم يوحد الله في أوصافه، لأن الله عز وجل لا يقاس على خلقه بقياس تمثيلي ولا بقياس شمولي كما ورد في محذورات القاعدة الأولى، فنحن ما رأيناه، وما رأينا له مثيلا، فكيف نظلم أنفسنا ونحاكم أوصاف الله إلى القوانين التي تحكمنا.

كتاب سهل - الرضواني
google-playkhamsatmostaqltradent